إحياء الديمقراطية- رؤى لتجاوز الركود نحو مستقبل عربي مزدهر

المؤلف: جلال الورغي09.24.2025
إحياء الديمقراطية- رؤى لتجاوز الركود نحو مستقبل عربي مزدهر

في الجزء الأول من تحليلنا، استعرضنا معالم ومؤشرات التراجع الديمقراطي، وأكدنا على الانحدار الذي يشهده مفهوم الديمقراطية وفقدانها لقوتها الدافعة، حتى في معاقلها التقليدية كالدول الغربية والولايات المتحدة. كما سلطنا الضوء على انعكاسات هذا "الركود" على منطقتنا التي تناضل بشدة من أجل الإصلاح والتغيير والتحول الديمقراطي.

إلا أن هذا الضعف الذي يعتري فكرة الديمقراطية، أو فتور حماستها كنظام حكم عالمي، لا يقلل من أهمية الإشارات العديدة التي تعكس آمال الشعوب وكفاحها في مختلف أصقاع الأرض من أجل تحقيق "الديمقراطية"، وتطلعها إلى أن تحكم بلدانها بنظام إداري حكيم، حيث يشير النقاش الفكري والسياسي الراهن إلى أن الديمقراطية هي النظام الأكثر قبولًا، أو بالأحرى الأقل ضررًا ومساوئ.

فالديمقراطية كمفهوم سياسي، وكآلية للحكم، ليست تصورًا جامدًا أو نهائيًا، وليست مكسبًا أبديًا ومضمونًا، بل هي حالة حيوية وديناميكية، لم تكن يومًا ولن تكون نموذجًا مثاليًا ومكتملًا، بالرغم من أنها تُصور اليوم بحنين إلى الماضي، باعتبارها المثال الضائع والنموذج المنشود، الذي تمتّع به الأجداد بينما يفتقده الأحفاد، في حين تظهر الديمقراطية متقلبة عبر التاريخ، تتأرجح بين الازدهار والانحدار، والقوة والضعف.

تبرز اليوم حزمة من الشروط والدلائل التي يمكن أن تساهم بدور محوري في انتقال الحالة الديمقراطية من الركود إلى الانتعاش، ومن التعثر إلى الازدهار، ومن التضاؤل إلى الانتشار، واستعادة بريقها كفكرة، وفاعليتها كمشروع إنقاذ.

  • أولًا: الحاجة الماسة إلى إعادة صياغة تعريف الديمقراطية وتخليصها فكريًا من الهيمنة الغربية، واعتبارها مكسبًا إنسانيًا وتجربة تاريخية للبشرية جمعاء، تتجاوز في أصولها التجربة اليونانية، لتشمل آفاقًا حضارية متعددة.

إن تحرير مفهوم الديمقراطية من الأسْر الثقافي الغربي، وتخليصها من هذه النزعة المركزية المهيمنة، يساعد في استعادتها كتجربة إنسانية أسهمت فيها شعوب وحضارات متنوعة في نشأتها وتطورها، سواء على الصعيد الفكري أو الآليات.

كما أن هذا التحرير الفكري للديمقراطية من إطار التفوق الغربي، يمكّن من النظر إلى هذا المفهوم بعيدًا عن الشك أو التوتر أو سوء الفهم التاريخي في العلاقة به، وهو موقف سلبي تراكم عبر قرون من الاستئثار الغربي بهذه الفكرة، والادعاء بأنها منجز غربي خالص، نشأ في فضائهم الحضاري، ثم تفضلوا به على البشرية جمعاء.

  • ثانيًا: الضرورة الملحة لتخليص الديمقراطية من قبضة الأيديولوجيا والطائفية. ففي عالمنا العربي، تعاني دولنا من انقسامات حادة على أسس أيديولوجية. وقد تحولت هذه الانقسامات إلى عقبة كأداء أمام فرص التغيير في البداية، ثم إلى معوق أمام أي انتقال ديمقراطي لاحقًا.

فالقوى السياسية في المنطقة العربية، بقدر ما رفعت راية التغيير وناضلت من أجله، بقدر ما عرقل تزمتها بأيديولوجياتها المتصلبة، وعدم تحليها بالمرونة اللازمة لتحقيق التوافقات وتكوين جبهات سياسية قادرة على إحداث التغيير، عملية التغيير المنشود.

وقد استغل الاستبداد في المنطقة الانقسامات الأيديولوجية ووظفها أحسن توظيف لإدامة ضعف قوى المعارضة وزرع الفتنة بينها، وإجهاض أية فرصة للتغيير، بل وحتى للإصلاح.

وتبدو الحاجة إلى تحرير الديمقراطية ضرورية وملحة في ظل ما شهدته التجارب العربية التي تحقق فيها تغيير النظام السياسي، كما في تونس ومصر وحتى اليمن. ففي هذه البلدان، أعاق الانقسام الأيديولوجي بين قوى التغيير مسار الانتقال الديمقراطي، وانتهى بفشل التجربة وإغلاق صفحتها، وعودة أنظمة حكم عسكرية أو شبه عسكرية متسلطة، بينما تم إضعاف أو إقصاء جميع تلك القوى المنقسمة أيديولوجيًا من الساحة السياسية.
إضافة إلى ذلك، يعاني العراق ولبنان من الطائفية التي حالت دون انتقالهما إلى الديمقراطية، وهو مطلب نادى به العراقيون واللبنانيون خلال حراك شعبي واسع النطاق بين عامي 2019 و2021 من أجل التغيير والإصلاح ومكافحة الفساد والعدالة الاجتماعية. إلا أن القوى المتنفذة في السلطة نجحت في الالتفاف على ذلك الحراك الشعبي، وإجهاض فرص التغيير والإصلاح الجاد.

  • ثالثًا: الحاجة الماسة إلى تحرير الديمقراطية من الأنانية السياسية. فبقدر ما تلعب شخصيات وتيارات سياسية دورًا بارزًا ورياديًا في تأسيس المشهد السياسي، تصديًا للإصلاح والتغيير، بقدر ما تتحول هذه الشخصيات والتيارات في لحظة ما إلى عوائق أمام تجربة التغيير والإصلاح والتحول الديمقراطي.

فجوهر الديمقراطية كآلية للحكم الرشيد بكل أدواتها المؤسسية والقانونية والرقابية، يقوم على مبدأ التداول السلمي للسلطة، عبر انتخابات حرة وديمقراطية ونزيهة.

لكن التجارب العديدة أثبتت أن شخصيات وتيارات سياسية، تحولت من قوة دافعة للإصلاح والتغيير، إلى قوة معرقلة ومربكة؛ بسبب الإصرار على البقاء في السلطة وعدم السماح بالتداول على القيادة أو السلطة، إما بحجة النجاح وعدم الحاجة إلى التغيير، أو بحجة المخاطر المحتملة التي قد تنجم عن التغيير.

وتساق حجج ومبررات عديدة، يبدو بعضها معقولًا ومنطقيًا، لكنها في المدى البعيد تكرس الاستمرارية على حساب التجديد والتداول. وتحرم الأنانية السياسية، أحزابًا ودولًا، من ميزة التداول، وتفوت عليها فرص التجدد والتحول.
وتعاني جميع التيارات والقوى من الأنانية السياسية، ولم يسلم منها لا اليسار ولا الإسلاميون ولا القوميون ولا الليبراليون. وهي داء سياسي مستفحل يكاد يجعل من الديمقراطية فكرة منفّرة للأجيال الشابة المتطلعة إلى المستقبل، وإلى التغيير والتجديد، على مستوى الأشخاص والأفكار.

  • رابعًا: الأهمية القصوى لتحرير الديمقراطية من الليبرالية المتوحشة ومنطق اقتصاد السوق. ففي ظل هيمنة العولمة على القيم الكونية، واستحواذ الرأسمالية المتوحشة على مفاصل الاقتصادات، أصبح المتحكمون في الاقتصاد هم المتحكمون في العملية الديمقراطية برمتها، وهم من يحددون قواعد اللعبة في الانتخابات وفي تشكيل الرأي العام وفي توجيه خيارات الناخبين، عبر وسائل الإعلام والتواصل، التي أصبحت أسيرة لقواعد التحكم والخوارزميات.

فبقدر ما تبدو وسائل التواصل الاجتماعي فضاءً للحرية المطلقة، بقدر ما تخفي حجم السيطرة والتحكم الذي تمارسه عليها المؤسسات العملاقة التي تديرها بطريقة لطيفة، ولكنها متطرفة ومتسلطة.
وقد أدى اختطاف العملية الديمقراطية إلى إفراغها من جوهر فلسفتها القائمة على الحكم الرشيد، بما في ذلك العدالة الاجتماعية. وبقدر ما جرّدت الليبرالية الاقتصادية نظام الحكم الديمقراطي من أسس العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، بقدر ما تحولت فكرة الديمقراطية إلى فكرة منفرة وغير جذابة، بعد أن أصبحت تبدو لقطاعات واسعة من المجتمع كأداة لتحكم مؤسسات الدولة العميقة، المختطفة والمشكلة أصلًا على مقاس اقتصاد السوق والليبرالية الاقتصادية.

لذلك، فإن تحرير الديمقراطية من قبضة اقتصاد السوق والليبرالية الاقتصادية، وإعادة توطينها ضمن فلسفة حكم تقوم على العدالة الاجتماعية والرؤية التنموية الاقتصادية الاجتماعية، يعتبر مهمة حيوية لاستعادة زخمها كآلية للحكم لا للتحكم، وبالتالي استعادة ثقة الشعوب بها كأفضل وأرشد نظم الحكم وأقومها مسالكًا.

  • خامسًا: على الرغم من الشكوك والتراجع الملحوظ في زخم فكرة الديمقراطية، إلا أن التمسك بها ولو شكليًا لا يزال هو الموقف المهيمن لدى عشرات البلدان في العالم. ففي عام 2024، تم تنظيم أكثر من 70 عملية انتخابية في مختلف أنحاء العالم، مما يشير إلى أن الرهان على المسار الديمقراطي لم يتراجع بشكل كامل، وإنما طرأت عليه انحرافات وتشويهات تستدعي المراجعة والتصحيح.

والمؤكد أن هذه الانتخابات التي يتم تنظيمها، يغلب على الكثير منها طابع شكلي استعراضي، لا يعبر عن إرادة حرة بالكامل، ولا يتسم بالشفافية التي تضفي على الفائزين فيها الشرعية الكاملة، وإنما هي عملية مشوهة لتكريس سلطة الأمر الواقع، أو لإضفاء الشرعية على سلطة متغلبة.

ويتعين على قوى الإصلاح والتغيير المدافعة عن الديمقراطية أن تناضل من أجل عملية انتخابية أكثر تعددية ونزاهة، كشرط أساسي في مسار ديمقراطي حقيقي يعكس الإرادة العامة للناخبين.
ويؤكد إصرار عشرات البلدان على تنظيم انتخابات ومؤسسات حكم تمثيلية، حتى وإن بدت في كثير من الأحيان شكلية، على أن الاتجاه التراجعي والانحداري لفكرة الديمقراطية ليس اتجاهًا نهائيًا، أو أنه غير قابل للتوقف، وإنما يمكن النظر إليه باعتباره فرصة لتصحيح وإعادة إنعاش مسار ديمقراطي جاد وحقيقي.

  • سادسًا: يمثل "الحق في تقرير المصير"، وما يرتبط به من حاجة الشعوب وتوقها إلى التغيير، عاملًا مهمًا وحيويًا في استعادة الديمقراطية لبريقها، باعتبارها طوق النجاة الواضح اليوم، في منح الشعوب المتعطشة للحرية، بصيص أمل في نظام سياسي أقل شرورًا، وأكثر تعبيرًا عن إرادتهم الجماعية.

فمنطقة مثل الشرق الأوسط وأفريقيا، يظهر سجلها وتصنيفها في التقارير والمؤشرات العالمية المتخصصة، أنها الأسوأ في العالم من حيث الحرية والعدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية وغياب الحكم الرشيد.

وهي منطقة بقدر ما تتوفر فيها من مقدرات وإمكانات، بقدر ما تعتبر الأسوأ من حيث انتشار المجاعة والفساد والأنظمة الاستبدادية. فعلى سبيل المثال، اضطرت مؤسسة "مو إبراهيم للإنجاز في القيادة الأفريقية"، وهي مؤسسة متخصصة في الديمقراطية والحوكمة والحكم الرشيد، إلى حجب جائزتها المقدرة بخمسة ملايين دولار لسنوات متتالية؛ لعدم استحقاق أي قائد أفريقي لهذه الجائزة.
ويمثل انتشار التعليم، والنسبة الكبيرة لفئة الشباب في المنطقة، وارتفاع مستوى الوعي لديهم بالحاجة إلى أنظمة سياسية تستجيب لتطلعاتهم، عوامل دافعة نحو الإصلاح والتغيير، لذلك نشهد بشكل دوري حراكًا شعبيًا وأشكالًا متعددة من الاحتجاجات المتصاعدة، تمثل الأرضية الخصبة لانتعاش فكرة الديمقراطية كسبيل لهذا الإصلاح وهذا التغيير.

سابعًا: شكّل انتصار الثورة السورية بعد أربعة عشر عامًا على انطلاقتها حدثًا تاريخيًا بارزًا ليس فقط لسوريا وإنما للمنطقة وحتى العالم، بما انطوى عليه من دلالات وما سيتركه من تداعيات. ففي الوقت الذي سادت فيه حالة من الانكسار ومزاج من الإحباط واليأس، انطلقت الثورة السورية، مستفيدة من الأحداث في المنطقة، وما أفرزته من تغير في بعض المعادلات، لتطيح بواحد من أعتى الأنظمة الاستبدادية والدموية في المنطقة، ولتعلن نهاية حقبة استمرت لنصف قرن حكم خلالها نظام الأسد سوريا بالحديد والنار.

وقد بث انتصار الثورة في سوريا موجة إيجابية غير مسبوقة في نفوس شعوب المنطقة، حيث عمت حالة من استعادة الأمل والحلم بالتغيير.

وسبق انتصار الثورة السورية أحداث أخرى في بنغلاديش وباكستان، أشارت إلى إصرار شعب البلدين على التغيير. فقد دفعت تحركات شعبية وطلابية حاشدة في بنغلاديش إلى فرار رئيسة الوزراء المتسلطة من البلاد، وأغلقت معها حقبة طويلة من الاستبداد والدكتاتورية والفساد. كما شهدت باكستان ولا تزال تشهد حراكًا شعبيًا واسعًا لاستعادة المسار الديمقراطي، وللمطالبة بالإفراج عن رئيس الحكومة السابق عمران خان الذي أطيح به من قبل الجيش.
وفي اتجاه معاكس لتراجع زخم الديمقراطية، تنهض اليوم مع بداية العام الجديد الثورة السورية كلحظة تاريخية لاستعادة زخم التغيير في المنطقة. فنجاح الثورة السورية يبشر اليوم بموجة جديدة في مسار الربيع العربي، يمكن تسميتها بالموجة الثالثة. وبالنظر إلى الأهمية الإستراتيجية لسوريا وثقل وزنها في المنطقة، فإن ما تحمله من دلالات كبيرة وانعكاسات نوعية لثورتها على المنطقة، قد يجعل هذه الموجة الجديدة المتوقعة مختلفة نوعيًا وكميًا.

وخلاصة القول: تواجه المنطقة اليوم تحديات إستراتيجية وأخطار جسيمة تهدد المعادلات التي استقرت عليها منذ ما يزيد على مائة عام. ولم تعد هذه التحديات والأخطار تهدد التوازنات الإقليمية لمنطقتنا فحسب، وإنما تهديدات تمس حدود بلدان، بل وحتى وجود بلدان أخرى.

وهو ما يجعل الاستهانة بالديمقراطية والزهد فيها ترفًا يزيد من حدة هذه الأخطار ويعمقها. فجميع دول المنطقة اليوم في حاجة ماسة لتعزيز شرعيتها، وترميم بنيانها السياسي والاجتماعي وتوطيده، نحو وحدة أكثر صلابة ومناعة، ولن يتحقق ذلك إلا عبر نظام سياسي ديمقراطي، يأخذ بعين الاعتبار أخطاء وانحرافات التجربة السياسية الماضية ويتجاوزها.

يبدو أن ملامح المنطقة في شكلها الحالي القائم على تسويات وترتيبات الحرب العالمية الأولى، قد استنفدت أغراضها، ولم تعد قادرة على الاستجابة لتطلعات وانتظارات شعوب المنطقة، ولا لمتطلبات استقرار بلدانها.

وتقوم الديمقراطية والخيارات الديمقراطية بدور السبيل الوحيد لدخول هذه المنطقة مئوية جديدة وحقبة جديدة تعبر عن هويتها وتطلعات شعوبها التي ضاقت ذرعًا بالقهر والاستبداد والظلم.

منطقتنا في حاجة للديمقراطية الآن وإلى الأبد.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة